حداثة الرواية السينمائية( موسيقى الحظ ) بين بول أوستر وفيليب هاساحمد ثامر جهاد · جدل الرواية والفيلم :
ربما من الصعب الجزم بأن الرواية قد استنفدت نفسها في السينما ، أو حتى مجرد الادعاء بأن السينما ، عبر تعاطيها المتواصل مع الرواية ، قد استنفدت سبل تأثير النصوص الروائية على المتلقي . كما إن ليس من مصلحة أحد اندثار جنس أدبي أو فني لصالح خلود نوع آخر . لكن من الوارد القول في الأدبيات السينمائية : إن جدلا فنيا وفكريا كبيرا ترك أثره العميق على مجمل العلاقة الجدلية بين الجنسين الفنيين ( الرواية والفيلم ) بشكل صاغ على نحو تاريخي/ فني أطر هذه العلاقة ، التي يمكن تتبع أولى خيوطها مع بدايات السينما التي استفادت بقوة -كما هو معلوم - من الأدب عامة والنوع الروائي الكلاسيكي خاصة في مراحل نشأتها الأولى ، لتظهر بعد انقضاء سنوات زاخرة بالمخاضات الفنية علامات مختلفة ذات دلالة عميقة ، تشير إلى تأثر النوع الروائي الحديث بآلية العمل السينمائي وحداثته ، خاصة مع رواج الموجات الطليعية وتيار الرواية الجديدة في فرنسا في المرحلة اللاحقة لتلك العلاقة . فيما كان الاتجاه الجديد الذي تبلور خلال هاتين المرحلتين ، يمتص الخبرات ويستلهم خصائص الجنسين في نشاط فني يمزج تقنيات السينما بحداثة الرواية ، وهو الاتجاه الأهم الذي تبناه جيل من الكتاب السينمائيين في أمريكا وأوربا ، من الذين اخذوا يكتبون للسينما بتصميم مسبق ، إلى جوار السينمائيين الذين حاولوا طرح أفكارهم عبر المدونة الروائية بوصفها شكلا تعبيريا أصيلا لرؤية العالم .
في تلك المناخات لم يعد الجهد النقدي مقتصرا على قراءة الفن الأكثر انتشارا وتأثيرا ، بل إن التباينات البنيوية لهذا الجنس أو ذاك والاستقلالية الجمالية لشكل الخطاب السينمائي في عمل ما ، هي التي أصبحت ميدانا تأويليا مرجحا لعمل الناقد . لتلك الأسباب مجتمعة أصبحت صورة هذا الجدل العميق معبرة بشكل جلي عن الميل المبدئي إلى الإقرار بتقارب هذين الجنسين رغم استقلاليتهما النسبية ، وهو ما يمكن فهمه ضمن مناخ فكري عام ، أشاع النقد ( ما بعد الحداثي ) فيه فكرة تداخل الأجناس الفنية والأدبية تحت مسميات إبداعية متقاربة ومبحث نظري بات معروفا بـ الايقونولوجيا .
· كتاب سينمائيون : بول اوستر
إن مجموعة كبيرة من الكتاب السينمائيين الأمريكيين والأوربيين ،كانت جودة رواياتهم وقصصهم سببا في نجاح الأفلام السينمائية التي عالجت نصوصهم على الشاشة . كتّاب تتنوع مواهبهم بين كتابة الرواية والقصة والمسرحية والسيناريو السينمائي الذي يُعد بعضهم محترفا في كتابته بحكم تراكم الخبرات لديه خلال العمل مع مخرجين عالميين ، ومن ابرز اؤلئك الكتاب : ( هارولد بنتر ، بول اوستر ، جون غريشام ، كريستوفر هامبتون ، جون آيرفنغ ، ستيفن كنغ ، مايكل كريتون ، توم ستوبارد ) . وبتنوع طبيعة نتاجات هؤلاء الكتاب الذين تتباين رؤيتهم للعالم والفن والانسان - ممن رفدوا السينما بدماء جديدة - تتنوع أيضا اتجاهات الكتابة السينمائية والأدبية بحيث يحمل كل عمل من أعمالهم بصمة خاصة وأسلوبا مميزا ينجذب إليه مخرج ما .
لقد كان بعض النقاد يعد ( بول اوستر ) أحد ابرز الكتاب الأمريكيين الأحياء ولعا بالسينما . تصنف رواياته حينا مع تيار الواقعية القذرة في أمريكا ، فيما يذهب البعض إلى اعتبار هذا التأثير السينمائي رافد مهم من الروافد التي شكلت عالم اوستر الإبداعي وأثرت فيه بقوة . درس اوستر في أمريكا وعاش بعض حياته في أوربا قبل أن يقيم في نيويورك . اصدر أول رواياته عام 1982، ثم أنجز ثلاثية نيويورك ( مدينة الزجاج ، الأشباح ، الغرفة الموصدة ) خلال عامي 1985 – 1986 ، وقد حققت نجاحا مدويا بين أوساط القراء والنقاد ، فأعيد طبعها عدة مرات وفي اكثر من بلد أجنبي ، ثم تلاها برواية ( قصر القمر ) و ( بلاد الأشياء الأخيرة ) ، وكانت ( موسيقى الحظ ) روايته السابعة عام 1990 ، تمثل إحدى أهم أعماله واشدها ذكاءا وعمقا وبراعة . وبسبب إن طبيعة سردها الروائي يسمح بصياغة سينمائية لأحداثها ، تحولت ( موسيقى الحظ ) أو موسيقى الصدفة إلى فيلم سينمائي رصين ومؤثر انتج عام 1993، عرض في برنامج نظرة خاصة في مهرجان كان ونال إعجاب الأوساط الفنية وتعاطفها ، لا سيما انه العمل الروائي الأول للمخرج ( فيليب هاس ) وأول فيلم يخرج عن رواية لـ ( بول اوستر ) .
عمل ( هاس ) في المسرح البريطاني واخرج تسعة من أفلام الفنون التشكيلية عن بعض الفنانين العالميين ، وفي أوربا كان قد تعرف على الروائي ( اوستر ) . لقد جاء فيلم ( موسيقى الحظ ) متأثرا بأسلوب السينما الأوربية واقرب إلى السينما المستقلة منه إلى سينما هوليود . صور الفيلم في أربعة أسابيع وكلف إنتاجه قرابة المليوني دولار . وقد اشترك اوستر مع هاس في كتابة السيناريو ، إضافة إلى اشتراك ( بيلندا هاس ) زوجة المخرج في الكتابة إلى جانب قيامها بالمونتاج ، مثلما ذكر الناقد سمير فريد في كتابه ( مخرجون واتجاهات في السينما الأمريكية ) .
· موسيقى الحظ أو معنى العبث :
قصة الفيلم بنيت بشكل عام على حكاية طريفة تقترب من أدب العبث . ببساطة شديدة يلتقي ناش ( الممثل ماندي باتينكين ) وهو يقود سيارته في طريقه إلى نيويورك بشخص غريب يدعى جاك ( الممثل جيمس سادر ) فيقرر أن يحمله معه من قارعة الطريق . ويدور بين الشخصين حديث عابر ، نعلم من خلاله ؛ أن ( جاك ) هو لاعب ورق محترف لم يحالفه الحظ غالبا ، فيما يوحي الآخر بجملة متاعب شخصية لا يصرح بها . بعد توالي مشاهد سريعة ، يوجه ( ناش ) دعوة لصديقه في أن يقيم معه في الفندق ويقترح عليه أن يقامر باللعب لحسابه ، لأنه يمر بأزمة مالية كبيرة بعد انفصاله عن زوجته ووفاة والداه . وإذ لا يوجد شئ يمكن لجاك أن يخسره يوافق على هذا العرض ، ويذهبان لمنزل فخم يقيم فيه أخوين ثريين سبق لهما اللعب مع جاك . وبعد عدة جولات مؤثرة ذات إيقاع مشدود ، يخسر ( ناش ) كل ما لديه من أموال في بداية الأمر ، ومن ثم يخسر سيارته التي رهنها أثناء تصاعد وتيرة اللعب ، ليقترض بعدها عشرة آلاف دولار من الأخوين في محاولة يائسة للمراهنة على فوز محتمل . لكن اللعبة تنتهي بخسارتهما النهائية والأكيدة هذه المرة . وفي أجواء من المزاج الرائق والحكمة الغامضة ، يقترح الأخوان على خصميهما ( ناش وجاك ) أن يسددا المبلغ عبر بناء سور كبير من عشرة آلاف حجرة في حديقة القصر الذي يسكنان فيه . وتأكيدا لعبث عصرنا وبشاعة أناسه يتضح لنا فيما بعد إن هذه الأحجار تعود بالأساس إلى كنيسة قديمة ذات معمار فني له طراز خاص ، وقد جلبت من مكان بعيد ، حينما اشتراها الأخوان الثريان كنوع من إثبات قدرتهما على امتلاك أي شئ يرغبان به . يفرد المخرج ببراعة ملحوظة لقطات الفيلم اللاحقة لتصوير المعاناة والصمت والآلام والإهانة التي يشعر بها ( جاك وناش ) صانعا بذلك مشاهد سينمائية رائعة تحمل الكثير من أسباب التأمل والتفكير . فتلك بمعنى كامل لحظات يومية مكرورة تشعرك بالخيبة واللاجدوى من المضي في الحياة .
قريبا جدا من نهاية الفيلم ، يُقتل ( جاك ) لدى محاولته الهرب من عقاب الموت البطيء . فيما ينجو ( ناش ) لدى قيادته السيارة بجنون ليقتل الحارس وابنه . وهي نهاية درامية مقنعة خاصة بالنسبة لشخصية الحارس التي تمثل انتهازية مكشوفة وتذبذبا عاطفيا بين طرفي الصراع . إلا أن ضربة الفيلم المؤثرة ، تبقى ملخصة في مشهده الأخير الذي يظهر ( ناش ) فيه سائرا على الطريق العام ضجرا وساخرا من كل حصل له ، فيما يتوقف أحدهم فجأة لمساعدته ، عارضا عليه توصيله بسيارته !!
إذا اعتبرنا إن البناء الدائري للفيلم يمثل محورا مركزيا في صياغة الاتجاه السردي للفيلم ، فثمة - على مستوى الموضوع - تأويل ضمني لسيادة العبث على الحياة بشكل نهائي ، بوصفه صورة منطقية لعد الحياة دائرة مغلقة ، يبنى الوجود فيها على مصادفة كونية . وبقراءة أخرى مقاربة لمحتوى الفيلم الروائي ، تكمن في الأخوين صورة السلطة وفروضها التعسفية على حياة الفرد وحريته . تلك السلطة الاحتكارية التي بقرار مزاجي كانت قد حولت الجمال إلى رمز للعقاب الجسدي والقهر النفسي ، هي سلطة رأسمالية حديثة تعي إمكانياتها وقدراتها على احتواء الآخر وتدميره . وأمام قوة شمولية فاعلة من هذا النوع نرى كيف إن الفيلم حاول اظهار المسافة الفاصلة بين الشخصيتين الخاضعتين للعقاب نفسه : ( ناش ) العقلاني الذي يحسب لكل شي حسابه ، و ( جاك ) الحسي المندفع الذي يراهن بكل ما يملك لمجرد خوض مغامرة جديدة . كان ناش نموذجا تقليديا للشخص الهادئ الذي يتعقد بثقافته ويحترم مظاهر الحضارة التي يتنعم بها الناس من حوله ، ويرى أن ثمة أمل دائما لتجاوز المحنة . أما ( جاك ) الذي يؤمن بالمصادفة وحدها ، فهو من نوع الكائن المتيقن أن الحياة لا معنى لها ولا تساوى بنظره اكثر من لحظة عابرة يمكن أن تعاش بمتعة .
( موسيقى الحظ ) فيلم عن مفارقة الحياة والصداقة والحظ ومعنى الخسارة والربح . أما من زاوية نظرته الخاصة والمتفردة للموضوع وأسلوب معالجته ، فيقترب هذا الفيلم كثيرا من أعمال السينما المستقلة ذات الإنتاج البسيط والأفكار الجادة . لقد اثبت ( فيليب هاس ) بفيلمه هذا ، انه أحد اؤلئك المخرجين القلائل الذين بذكاء اختياراتهم وحدة تصوراتهم وجرأة تفكيرهم ، يستطيعون إخراج السينما الأميركية من خيمة هوليود المتهرئة نحو فضاء فني رحب .